ها أنا الآن يا سيدي أسير في طريق النسيان، لأني بدأت أكتبك لينضب حبك من بئر قلبي..
بعد فراقك، دخلتُ في غيبوبة اللاوجود بلا مشاعر ولا حراك أمام الرصاصة التي أطلقتها عليّ قبل رحيلك..
أتذكر حينما أخبرتك أن اسمك سيبقى ملتصقًا بي ما حييت؟ وأن حبك سيخلد في حنايا قلبي أبد الدهر؟ وأني غرستك تحت جلدي كوشمٍ لا يزول؟.
حينها انتظرتُ أن تؤكد لي هذه النظرية التي لم يؤمن بها أحد سواي، و لم تكن عندك سوى هذيان امرأة مجنونة..
جاءني ردك بكلمتين ثالثهما أحبك،
كيف لي أن أكون إنسانة رائعة بنظرك يا ترى؟ لم تخبرني لمَ؟، ولم أسألك أنا، لأني اكتفيت كعادتي بابتسامة خجولة وبالإنصات إلى قرع طبول قلبي المحتفلة.
الآن أتذكر تلك اللحظات الرومانسية اللامنطقية التي تسير في مدارات عشقك الوهمية، فلم يكن هذياني سوى إبحار في فضاء ربعك الخالي مني، وإني لم أكن إلا مصابة بحمى الحب المتوسط القائم بين أولوياتك و وجودي، لذا كنت أسقط صريعة الألم كل ليلة وسكاكين لامبالاتك تنهش أحشائي.
أتلوى حتى يأذن لي الصباح أن أتنفس، فأهرع بلهفة امرأة متسولة -لقطعة نقود ملقاة على الطريق- إلى نافذتي الافتراضية، علّي أرى طيفك أو أن ألتقط بقايا ذرات عطرك التي غدرت بك والتصقت بالمكان لتقول لي صباح الخير أيتها المرأة الحمقاء.
نعم حمقاء، حينما اتبعتُ ظلك كأعمى يسير وراء عكازه معتمدًا عليها دون حدسه، هل سألت نفسك يومًا ماذا يرى الأعمى؟
ستقول لي لا يرى سوى الظلام، وأنتِ مثله تسيرين في ظلام حبي دون اتجاه، لا ياعزيزي الأعمى لا يرى شيئًا أبدًا وأنا أكثر شبهًا به، كنتُ عمياء لدرجة أني لم أعتمد على حدسي الذي كان يخبرني بوجود الحفر والأشواك والزجاج المفروش في طريقي إليك، أتجاهل الألم، وأغض الطرف عن نزف أقدام قلبي العارية..
حتى سقطت في الهاوية..
ومضيتُ في سراديب الخذلان، أهش بعكازي على خِراف أحلامي الخيالية، أنحرها خروفًا خروفًا وأقدمها أضاحي لأحزاني اليتيمة.
أكتبك يا سيدي الآن لأتخلص من بقايا اسمك العالق بين أسناني، توقفت لحظة عند هذه الجملة، وتساءلت هل تخرج حروفك من بين الأسنان، أم تكتفي بها الشفاه؟
وبدأت أنطق اسمك، كطفل أصم يتعلم الكلام لأول مرة، بعد أن فتحوا له رأسه ووضعوا حلزونًا في أذنه..
دُهشتُ حقًا لأن حروف اسمك ترقص بصخبٍ بين أطراف الشفاه واللسان، ولكثرة ما رددته سقط سهوًا في حنجرتي وعلق بها.
أكتبك يا سيدي لأنسى...
وأنا في صحوة الذاكرة، في أشد حالات النسيان المستعصية، أطارد طيفك وأطرده من مغاور قلبي المفتونة، من أكثر ركن مكثت فيه طوال السنوات الماضية، أكنس الأيام منك يومًا يومًا...
هل تعلم أن أيام غيابك تفوق تلك التي كنت فيها تبادلني الشعور؟
وأحببتك... لماذا يحب المرء قاتله؟
لماذا تحب النساء معذبهن؟ ولأي مرحلة من الغباء يصلن في التعلق بمن يرمي لهن فتات حب على قارعة الأيام؟ ألهذا الحد كنت جائعة لبقايا الوقت عندك؟ لفائض شعورك واحتياجك؟
هل كان عذابي فاتنًا لتُشبع به غريزة غرورك؟
أم أن احتياجي لك يُشعرك بنشوة الانتصار على أنوثتي الأسطورية؟
نجمٌ بعيد المنال عن أعين الرجال كنتُ، إلا عنك إلا عنك...
كنت لك مجرة تحيط بك وتعطيك كل ما عندها من نجوم، دون مقابل..
لا بل كنت أطلب مقابلًا، أن تكون دائم الحضور في أشد لحظاتي احتياجًا..
كلمة منك يا سيدي كانت تكفي لأن تكون زادًا لأيامي القادمة العجاف، أعيش بها، أضحك، أبتسم، أرقص، أطير، أهذي، أقف، أمشي، أركض، أتلاشى...
بك وحدك كنت أحيا ما تبقى من أيام عمري بشغف امرأة عاقر زرعوا طفلها في رحم امرأة أخرى..
وأحببتك بكل ما أوتيت من حب، وعلقت بي، كطرف صناعي لجريح حرب، لم تشعر بي كما كنت أشعر باحتياجي لك...
ومضت بي الأيام أتشبث بطيفك، لأثبت لنفسي بأني لا أستطيع أن أكون في حياةٍ لستَ فيها حتى ولو سرابًا، تتراءى لي من بعيد وأكتفي بالنظر إليك دون أن أخطو أي خطوة اتجاهك أصارع عطشي إليك كبرياءً، أكتم صراخي الذي يفجر جوفي ويحوله إلى شظايا..
أنظر إليك يا سيدي خلسةً، أحترق اشتياقًا ويتمزق قلبي من فرط الألم كلما داهمتني حقيقة أنك رحلت و لم تعد تدور في فلك عشقي، ولا حتى أن تقف دقيقة صمت على أعتابي، ولا أن أمر في خاطرك كفكرة عابرة.
أحرقني حبك يا سيدي احتراقًا أحالني إلى رماد، ما عاد مهمًا أن تلقي بأعواد الثقاب المغموسة بكبريت غيابك على حقول انتظاري الصفراء، بتّ امرأة حرة أسير في طريق النسيان عبثًا، أكتبك وهمًا وأسطرك ذكرى خالدة الألم، في خيالي أبدًا لن تزول...
من كتاب قيد الحواس