محبرة الحب
للمرة العاشرة بعد المئة أهمُّ لأن أكتب لك.
يتراجع الحبر في قلمي إلى الوراء عنادًا.
أتركه ليستعيد صحوه، وأعيد ترتيب ذكرياتي التي بعثرها فراقك.
أبدأ بالذكرى الأولى، أتأملها بعينٍ فُقئت يوم خيانتك لي، أتلمس حدودها بطريقة بريل أتحسس تفاصيلها التي مُحّت لكثرة ما لامستها أصابعي مقنعةً نفسي أنها حقيقةٌ كالوجود، عبثيةٌ كالعدم.
في زمن حبك، سكبت الحبر في البحر الميت شوقًا، تكاثرت الحروف جنونًا، سكنتْ الضفاف، الشواطئ ، الوديان، الأنهار وظهر غيمة حتى قطرات المطر المسجّات على النوافذ.
صنعت من الورق زورقًا أسافر به إلى عالمك، دون شراع يقودني وبوصلة توجهني، كانت تكفيني كلماتك الكهرومغناطيسية التي تجذبني نحوك دون إدراك.
كنت أنصت إليك وأصفق بكل حواسي لكلامك المبطن بالدانتيل، كمواطن هدموا غرفة نومه لأجل توسعة الطريق، تركوه عاريًا على حافة الحلم، يقف في الصف الأول لسماع خطبة لصٍّ استلم رئاسة البلدية ويعد بالإصلاحات الوهمية..
هكذا كنت..
في كل مرةٍ أعود محملةً بالكلام أنتظر بشغف فلاحٍ موسم الحصاد، فتخون الشهور دورة الأرض، وتشرق الشمس على غير مدينة، تهاجر الغيمة إلى بلادٍ نساؤها يتناولن حبوب منع الحب كل صباح، قبل أن يضاجعن الحياة مع فنجان قهوة.
يهطل المطر قرمزيًا كأنهار بلادي صبيحة مجزرة، تغريك الشفاه الممتلئة التي تقضم تفاحة الحب ببلاهة عابرٍ دون شعور، تبهجك الأضواء المنثورة على أطراف الطرقات وأنت تشق الليل بسيارتك الفارهة، تدندن أغنيتك المفضلة.
يهجرني شتاؤك، فلا يهطل مطرك على حقلي، ولا تبتل أرضي، ويبقى فرحي حبة قمح كسرت نصفين في بيت نمل دون أن يغدو سنابل.
لا حاجة حينها لمنجل غيابك الذي يقتص من لهفتي كلما اقتربتُ من حصاد انتظاري.
فيطول عنق الانتظار محنيًا على وجعي.
أهمُّ لأن أكتب لك..
أضع القلم الأصم جانبًا بعد أن يصمت حبره، أصنع طائرة من ورق، أرمها لتسافر إلى سلة المهملات مدفن رسائلي اليومية، وقارئتي الأوفى.
لم تقرأ لي، أنت الذي طرقت باب محبرتي، وأخرجت مارد الإلهام النائم زمنًا في رفوف أيامي المهملة.
أتراك نادمًا على حبّ امرأة تعرف كيف تداعب الحرف على وتر أمنية، وتدفن غضبها خلف قصيدة؟.
أتراك عجزت عن مجاراة لهفتي الصادقة بشوقك الكاذب؟
هل ما عدت تستطيع الاختباء وراء قناعك طويلًا لتحضر حفلًا تنكريًا لطقوس لقاءنا العاجل؟
وكتبت لك...
بعد انتهاء زمنك بدمعة وشهقة، وموت الحب على قارعة الأيام، غدت جرّة أحزاني فارغة مني.
أتحسس قلبي الذي ما عدت أشعر بنبضه، بعدما كان يهبني شعورًا بحجم الكون كلما التقيتك.
لقاؤك، لمعة برق تضيء سماء أحلامي، وتدفن في أرضي كمأة حبنا.
أنهكت مدني بطغيانك، هل ورثت الفساد عن زعماء بلادك، وتعمدت أن تسرق أجمل ما عندي وتتركني ساحة حربٍ لكل المشاعر؟
وكتبت لك..
في تلك الليلة التي تسللت فيها إليك متنكرة بزي امرأة مزقها الحب، لأتعرف على الرجل الغائب خلف أعذاره، وجدتك مسكينًا طاهرًا كما لم أعرفك من قبل، لم تكتب لامرأة بعد، ولم تعرف كيف يكون الحب حقيقةً كالشمس، سمعتَ قصتها الملفقة كخبر كاذب على القناة المحلية، وتعاطفت مع وحدتها المزيفة، لم تتوانَ عن استعراض عضلات قلبك ودفء رجولتك لاحتوائها.
حزنت لأجلك استهزاءً، وأشفقت على المرأة التي تركتها ترقب المشهد عن كثب وتدعى أنا.
سكبت محبرتي كلها فوق أوراقك لأغرقك بفيضان غضبي وحرفي، قلت لك كل ما عندي دفعة واحدة، أنا التي أهب الحب كلّه، سقطت بكلّي على صفحة إدانتك، ختمت سطورها بنقطة أخيرة آخر ما تبقى من المحبرة.
من كتاب قيد الحواس..