كان هذا المنزل آخر ما بقي لنا من تركة عمي بعد مغادرتنا لبيوتنا في مدينة حمص منذ بداية الحراك، وقد علمنا من بعض الأشخاص أنها نهبت مباشرة وبيع أثاثها، بل لم يعد لنا أمل في العودة إلى حمص حيث تم الاستيلاء على كل منازل الحي هناك.
إنّ مغادرة الناس لبيوتهم وخاصة كبار السن، أشبه باقتلاع شجرة من جذورها حتى وإن كان في بقائهم عرضة للموت.
كنت أدون في دفتر مذكراتي الكثير مما مر معنا في مدينة حمص، لكنه بقي في بيتي مع الكثير من دفاتري وكتبي وأشيائي التي لم أحمل منها أي شيء، لأنّا كنّا نعتقد أنها بضعة أيام ونعود, ولم نكن نعلم بأنّا سنغادره بكل ما فيه من أثاث وذكريات إلى الأبد.
ركبنا في سيارة السكودا التي تركها عمي (والد زوجي) بعد وفاته قبل بداية الثورة بثلاث سنوات، والتي لا تتسع إلا لراكب واحد بجانب السائق، فصعدت والدة زوجي بجوار ابنها الأصغر، وأنا جلست في الصندوق المغلق للسيارة مع أخت زوجي الصغرى. لم نكد نصل إلى البيت حتى عادت الطائرات وبدأت بجولتها الصباحية في تمشيط المنطقة ورميها بالصواريخ والقذائف..
لم يكن جمع ما نحتاجه والتفكير بما يلزمنا، بالأمر السهل؛ كان يتطلب منا سرعة في العمل والبديهة على حد سواء. جمعنا ما استطعنا جمعه من أشياء مهمة كبعض الأغطية، والمونة وجرة غاز.. الناس الذين لم يتمكنوا من ترك منازلهم في اليوم السابق، خرجوا هلعاً دون أحذية راكضين على التراب وفوق الحجارة حاملين أطفالهم على أكتافهم فراراً من الموت، حيث تجمع أغلب الأهالي في منتصف البلدة عسى أن تنقلهم السيارات القليلة إلى خارج دائرة الحرب القائمة.
صعدنا مسرعين إلى السيارة بعد أن اقتربت الصواريخ وكان الهدف حارتنا بعد إصابة الحارات والبيوت المجاورة، كنا نستغل اللحظات القليلة لإنهاء العمل قبل أن يأتي دورنا في تلقي تلك النيران.. ما إن سرنا بضعة أمتار حتى اهتزت الأرض والسيارة تمايلت، وأحاط بنا الغبار والدخان الأسود، أما الصوت فقد كان يصم الآذان.
كانت الغارة قد استهدفت باحة المنزل الأمامية، لم نكن نتوقع أن نصل أحياء، فقد قدّر لنا أن نكون خلف المنزل حينها وإلا يمكن أن نُعجن مع الحديد بالصاروخ.
بكيت دون شعور، بعد تمالك نفسي طوال الوقت، لم أستطع أن أتظاهر بالقوة أكثر من ذلك، وكنت قد حُشرت في صندوق السيارة وسقطت بعض الأغراض فوق رأسي بعد اهتزازها ومنها دولاب احتياطي تحملت وجوده على ظهري حتى وصلنا..انضم إلينا زوجي والبنات، وانطلقنا قاصدين الخروج والنجاة.
كان الطريق مزدحماً بالسيارات، وكان السير بطيئاً جداً بسبب التفتيش الذي تقوم به الحواجز في أول البلد الذي سيستضيف آلاف السكان الهاربة، والطائرات كانت قد أصابت بعض السيارات وبعض السائرين على أقدامهم وخلفت عشرات الجرحى، وقد استهدفت الخيم التي أقامها البعض من الأهالي في البراري ممن يمتلكون المواشي. كانوا يعتقدون أن الطيار ما زال يحمل في وجدانه الإنساني القليل من الرحمة، ولن يستهدف جموع المدنيين الذين ابتعدوا عن خط المواجهات، ولكنهم أساؤوا الظن هذه المرة فلم يكن أحد في مأمن من النيران إلا من رحم ربي..
وصلنا بعد عناء إلى المنزل الذي جمع ست عائلات من بينهم أهلي استقبلني أبي معاتباً لبقائي تلك الليلة تحت الخطر، وفرحاً لرؤيتي وعائلتي بخير..
حكاية ألم سورية من كتاب حقيبة سفر بقلمي سهير المصطفى
#يتبع...